هدنة الإبادة الجماعية

هدنة الإبادة الجماعية
محمد الحمادي

مشهد الطيار الأمريكي الشاب آرون بوشنل وهو يضرم النار في جسده صارخا "فلسطين حرة" ومرددا بأنه لن يكون بعد الآن متواطئا في هذه "الإبادة الجماعية" كان صارما للجميع، فعندما يأتي هذا المستوى من الرفض من مواطن أمريكي ويتم على الهواء مباشرة من أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن فهذا يعني أن شيئا تغير في المجتمع الأمريكي.


أما العبارة التي أصبحت أكثر تداولا مؤخرا هي: إذا لم يكن ما يحدث في غزة "إبادة جماعية" فكيف وما هي الإبادة الجماعية؟ هكذا تساءل ويتساءل العشرات من الحقوقيين والسياسيين حول العالم... واللافت أن من يطرح هذا التساؤل ليس العرب فقط بل المجتمع الغربي والنخب الغربية، بل وحتى اليهود من أكاديميين ومتخصصين في مجال الإبادة الجماعية والهولوكوست... فقد اعتبر الخبير الإسرائيلي في شؤون الإبادة الجماعية راز سيغال وهو أستاذ مشارك في دراسات المحرقة والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون، في مقال نشر مؤخرا حول ما يحدث في غزة، أنها حالة نموذجية من "محاولة الإبادة الجماعية".


إسرائيل ترفض هذه التهمة وتعتبر كل من يوجه لها هذا الاتهام بأنه متربص ومنحاز وداعم لحماس ومعاد للسامية! ورغم أن كل من يتبنى هذه الفكرة يعتمد على النصوص الواضحة للقانون الدولي فإنها تصر على الرفض والإنكار، ومن الطبيعي أن تكون في هذه الحال، فمرتكبو الإبادة الجماعية على مر التاريخ في كل جغرافيا العالم يرون ويعتبرون ضحاياهم خطرين وغير إنسانيين ويستحقون ما يصيبهم، فهكذا كان ينظر النازيون إلى اليهود!.


ما يحدث في غزة ليست أول إبادة جماعية في التاريخ ترتكبها دولة ضد شعب، فقد شهد العالم الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية، والإبادة الجماعية في رواندا 1994، والإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك 1995، والإبادة الجماعية في دارفور 2003، ولكن ما يحدث في غزة أنها أول إبادة جماعية في التاريخ يشاهدها العالم دون أن يتحرك، بل ويشارك فيها بعض دول العالم، ما يعني أننا أمام نموذج جديد من جرائم الحرب الجماعية!


ومن الضروري أن نشير في حديثنا هنا إلى أنه من ناحية القانون الدولي اختلف الفقهاء القانونيون فيما إذا كان ما يحدث يرقى إلى كونه إبادة جماعية أم لا، ففريق يرى أنها لا ترقى لاعتبارها إبادة جماعية، وفريق يرى أنها نموذج للإبادة الجماعية، ولكن يتفق الفريقان على أن ما يحدث هو جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية.


وبالرجوع إلى القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها يتضح أنها تتطلب القصد أو نية محددة لتحديد ماهية الإبادة الجماعية، اما المقصود بالإبادة فهو تدمير مجموعة عرقية أو إثنية أو دينية أو قومية في ذاتها بشكل جماعي.


والفريق الذي يتبنى حالة الإبادة الجماعية يرى أن هذه النية كانت واضحة في العديد من الموقف على مدى الأشهر الماضية منذ بداية أحداث غزة، فما قاله وزير الدفاع غالانت في 9 أكتوبر يشير إلى "النية" عندما أعلن حصارا كاملا على غزة، وقطع المياه والغذاء والوقود، وقال: «نحن نحارب حيوانات بشرية» وسنرد «على هذا الأساس»، وقال أيضا: "سنقضي على كل شيء".


والمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري، أقر بالتدمير العشوائي، وقال: "إن التركيز ينصب على الضرر وليس الدقة"، وهنا تبدو أن النية واضحة.


كما أن الجيش الإسرائيلي قال: أي شخص يبقى في منطقته رغم التحذير سيتم وضعه على قائمة الموت، ويحذر الجيش الإسرائيلي من أنه سوف يسوي المنطقة بالأرض، وبمجرد تسويتها، يتم إرسال المشاة، وبذلك يكون كل من لم يتمكن من الهروب هدفا للقتل، وهذا انتهاك واضح للقانون الدولي وإسقاط آلاف القنابل بما فيها القنابل الفوسفورية، كما سمعنا، في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم، يعتبر أول عمل من أعمال الإبادة الجماعية، وفقا للاتفاقية.


بالإضافة إلى الأفعال الأخرى التي تعتبر ضمن الإبادة الجماعية والتي تتسبب في أضرار جسدية أو عقلية خطيرة، وخلق الظروف المصممة لتحقيق تدمير الجميع من خلال قطع المياه والغذاء وإمدادات الطاقة وقصف المستشفيات، والأمر بالإخلاء السريع للمستشفيات، وهو ما أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه "حكم بالإعدام" على المرضى.
لذلك، فإننا نشهد مزيجا من أعمال الإبادة الجماعية بنوايا واضحة، وهذه الأمور التي جعلت سيغال يعتبر أن ما يحدث في الواقع حالة "نموذجية للإبادة الجماعية".


ووسط هذا الجدال والاتفاق والاختلاف حول الإبادة الجماعية، هناك فريق يعمل بجد لإيقاف هذه الحرب والوصول إلى هدنة بعد كل هذا الموت والدمار الذي لحق بغزة وبسماتها الأبرياء، وهذا ما يجب التركيز عليه والعمل على تحقيقه خلال الوقت الحالي، وقبل دخول شهر رمضان، وفي الوقت نفسه على إسرائيل واصدقائها البحث عن "أفق سياسي" للوضع المزمن في غزة والذي أصبحت تداعياته تؤثر على المنطقة بأسرها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية